أنزل الوعي الجمعي العربي، شهر الصوم منزلة القداسة، حتى تسمّى العرب به، وأحاطوه بهالة مستمدة من عظمة روح أمّة تشكلت بالإسلام، فابتكروا على اختلاف بيئاتهم عبر الدهور، ضروبا من المباهج كانت ذروتها مظاهر الزينة والتزين احتفاء بالصيام البهيج.
ولأنّ ديننا الحنيف، كما يؤكد مختصون في احاديث لوكالة الانباء الاردنية (بترا) ، أولى الطفولة اهتماما استثنائيا، بصفتها الناقل لتعاليمه إلى قابل العصور، فقد استقرّ في روع الفئات الاجتماعية أن الزينة والبهجة تليق برمضان الذي يوسع مساحة الفرح والحبور لدى الاطفال، خصوصاً، وهو ما انسل الى المجتمعات العربية والاسلامية.
على أن السيَر المأثورة في التاريخ، تورد ما مفاده أنّ الدول الفاطمية في مصر، كانت أول من أدخل صيغ الزينة للاحتفاء بشهر الصوم، بتزيين المساجد والشوارع والساحات العامة.
وفي الاردن، تشغل زينة رمضان أوساطاً ناشطة في هذا المضمار، سعياً لإشاعة الفرح، خصوصا لدى الاطفال، الامر الذي تنشغل به الشيف إسراء برجاوي، التي تُعدُّ العُدّة لورشات فنية متخصصة للأطفال، لينخرطوا في أجواء الشهر الفضيل.
ففي مرسمها "ميني كانفس" ينهمك الاطفال بتحضير زينة رمضان وصناعة قطع حلوى الكوكيز المزينة بأشكال تناسب رمضان، فالأطفال كما تقول، هم حاملو فكرة البهجة في شهر الصوم .
وتضيف، انّ الأعمال الفنية ليست فقط لقضاء وقت جميل، بل مهارة تنمي الحس الفني لدى الطفل، مشيرة إلى الإقبال اللافت لمثل هذه الورشات الرمضانية، بغنى محتواها في إثراء معارف الطفل ومداركه وتعزيز القيم النبيلة لديه.
وتلفت إلى أن الاطفال يستمعون خلال الورشات لأناشيد رمضانية، بينما يعبق المكان برائحة حلوى الكوكيز التي يقوم كل طفل بفرد عجين الحلوى ورقّها وتشكيل الفوانيس وسواها من زينات رمضانية، موضحة أن كل طفل مشارك يقوم تِبعاً لفئته العمرية، إما بتلوين فوانيس خشبية أو تشكيل هلال رمضان بخيوط (المكرمية)، ومن ثم التقاط أجمل صور للذكرى، ليصار الى توزيع الهدايا على الأطفال .
وتصف الفنانة التشكيلية سماح ياسين، مهارات الاطفال وابداعاتهم في ورشات تنفذها بالتعاون مع أسرهم، موضحة أن الورشة توجد أجواء تحفيزية للتشكيل الفني للزينة الرمضانية، فالفعالية تُلهب الخيال وتدفع للتشكيل المبتكر.
وتم خلال الورشة التي نفذت في مرسمها "نقطة لون"، العمل على شرح أبرز القواعد الفنية لتصميم الفانوس الرمضاني، والطرق الفنية الإبداعية في تشكيل زينة رمضان، مبينة أنه إرث استمدته من جداتها ومن ثمّ والدتها في صنع مظاهر هذه البهجة.
ويقول استشاري الطب النفسي الدكتور عبدالله أبو عدس، انه خلال جائحة كورونا عبر السنتين الماضيتين، اقتصرت أجواء رمضان على أجواء منزلية، مبينا أن مجموعة كبيرة من الأطفال لم تعش رمضان التقليدي بطقوسه وعاداته وتقاليده.
ويوضح أنه حانت الفرصة لرسم صورة رمضان، سواء الاجتماعي منها كالتقارب الأسري والعائلي والتحضيرات التقليدية البسيطة احتفالا بقدوم هذا الشهر الكريم، إضافة إلى موضوع العبادات، كصلاة التراويح وإحياء ليلة القدر.
ويضيف، إن إشراك الأطفال في انتاج الزينة الرمضانية يوطد القيم الايجابية التي يحض عليها الدين وتشجيع الأطفال على صيام شهر رمضان وتعزيز نظام المكافأة الدماغية لديهم، ذلك أنه كلما أنتج طفل شيئا ما، زادت كمية "الاندورفين" الدماغية لديه، وهو ما يطلق عليه بالتعزيز الذاتي، بما يحفزه إلى إنجاز شيء آخر.
ويبين أن مشاركة الطفل مع أطفال آخرين ومع ذويهم أو مع المجتمع في صناعة هذه المشغولات اليدوية بصناعة الزينة والفوانيس، فإنه يؤدي إلى تعزيز وترسيخ قيم التعاون والتكافل الاجتماعي التي يعززها بالأصل رمضان، فضلا عن أنها تدخل البهجة والسعادة والسرور في نفوس الأطفال.
ويرى أنه في أن انخراط الأطفال في أعمال منتجة ذات قيمة وفائدة، رسالة إنسانية لترتيب إنجازاته على حسب فائدتها، وبما يضمن إشغال وقتهم بأعمال مفيدة، لينأى ذاتياً عن هيمنة الأجهزة التكنولوجية، فينخرط في نشاطات الطبيعية الفيزيائية التي تعزز الصحة البدنية والنفسية لديه.
ويستطرد بالقول: "ان انخراط الاطفال في ورشات مماثلة فرصة فعالة لإعادة دمج الأطفال وتقليل أعراض الخجل الاجتماعي أو القلق وعدم القدرة على التواصل الفعال والبناء مع الآخرين".
ويوضح أنّ إشراك الأطفال في هذه النشاطات يؤدي إلى تعزيز التناغم العصبي العضلي، وبما يؤدي إلى الراحة النفسية والجسدية، إضافة إلى تعزيز مهارتي التخطيط والتنفيذ لدى الأطفال، لأنها تؤدي إلى التفكير الإبداعي والخلاق، وهي كذلك خطوة في غاية الأهمية وذكية من الناحية النفسية والاجتماعية والفكرية.
وحسب ابو عدس، فإن هذه الورشات تعزز التوكيد الإيجابي في ذات الطفل، وترسيخ ثقته بنفسه وقدرته على الإنجاز، ما يجعل مفهومي التكافل والتعاون مع الأطفال الآخرين والاهل، ركيزة أساسية في حياته.
ويعتبر أن مبدأ الحفاظ على قيمة الأشياء واستثمارها وتحويل الأشياء الصماء إلى أشياء ذات معنى أو قيمة، ومشاركة الأشياء مع الآخرين يؤدي إلى تعزيز فلسفة حل المشكلة لدى الطفل.
ويؤكد ابو عدس، ان كل هذه الاجواء الايجابية تحافظ على توازن الطفل الذي يعمل على تحويل المواد الاولية الصماء إلى أشكال جميلة تُسهم في تنويع فضائه البصري.
ويلفت إلى ان كل ما يقوم به الطفل اليوم يغدو مخزونا غنيا لذاكرته التي تستدعي حصيلتها ابداعا في قابل الايام.
اختصاصي علم الاجتماع الدكتور عامر العورتاني، يقول، يحلّ الشهر الفضيل وقد سبقته مظاهر الفرح والبهجة استعداداً لاستقباله، فقد توارثت الأجيال منذ العهد الفاطمي الكثير من العادات المرتبطة بشهر الصيام، وتعد زينة رمضان المتمثلة بالفانوس وغيرها من رموز الموروث التاريخي.
وأشار الى أنّ بعض الدول الصناعية تنبّهت إلى حجم الطلب على كلّ ما يتعلق بزينة رمضان، فقامت بتحويلها إلى صناعة تعمل على تصديرها إلى مختلف بلاد العالم الإسلامي، وقد ساهمت تلك الصناعة القائمة على استخدام مواد رخيصة الثمن، في زيادة التوجه الاستهلاكي نحوها بشكل لم يكن موجوداً في فترات زمنية سابقة، حتى أنها أصبحت من طقوس الشهر الفضيل التي لا يكاد بيت يخلو منها .
وبالعودة إلى بدايات هذا الفلكلور الرمضاني، يوضح العورتاني أن صناعة فانوس رمضان كانت تتمّ على أيدي الأطفال وذلك باستخدام ما توفر بين أيديهم من مواد بسيطة كالكرتون المقوى والشرائط الملونة، ليخرجوا ليلة ثبوت رؤية هلال شهر رمضان من أجل تعليقها بمساعدة الكبار في أحياء القاهرة، وسط مشاعر الفرح ومتعة الإنجاز، وأصبح موروثا شعبيا وانتقل إلى العديد من الدول العربية.
ويستدرك قائلا: إن أطفال عصر التكنولوجيا باتوا محرومين من تلك المتعة وهم لا يشاركون في صناعة فرحة استقبال الشهر الكريم، ويكتفون برؤية الأهل يعلقون ما قاموا بشرائه من حبال الزينة المضاءة، والفوانيس المتعددة الأشكال والأحجام .
والحقيقة، كما يضيف العورتاني، أنّ الحالة التي كانت تسود بين الأطفال في الحقب التاريخية القديمة تستحق التوقف والتأمل، فبالرغم من عفوية المنجز وبساطته، إلّا أنّ مضمونه التربوي عميق وينطوي عليه أبعاد تعليمية تصبّ في الجانب النمائي من شخصية الطفل.
ويركّز على ان ممارسة الحرف والفنون والأشغال اليدوية جزء هام من التنمية الشاملة للطفل، ويمكن من خلالها إطلاق مخيّلة الطفل، وتحرير قدراته الإبداعية، ورفع مستوى تمكنه من حلّ المشكلات، وتعزيز ثقته بنفسه وتقديره لذاته، وبالتالي تنمية اتجاهات الطفل، فالطفل يتعلم من خلال اللعب والممارسة وهو توجه قائم بذاته عند بعض البرامج التعليمية التي تعتمدها بعض المدارس الحديثة، لذا فإنّ خبراء التربية ينصحون الأم بتنمية المهارات المعرفية لأطفالها لمنحهم ميزات مبكرة، الأمر الذي يتطور بالتدريج وصولاً إلى مرحلة الدراسة.
ويشير إلى أن العمل اليدوي يشكل جزءاً يومياً من المرحلة التعليمية المبكرة، فالأنشطة الفنية اليدوية ليست مجرد وقت فراغ وتسلية عبثية، وإنما بيئة متكاملة مفتوحة على عالم لا ينتهي من الابتكار، خاصة مع ما يحمله الشهر الفضيل من أجواء روحانية واجتماعية استثنائية.
واعتبر أن شهر رمضان يشكل مدرسة متفردة، وفرصة ثمينة لنبدأ من خلالها بإبعاد الأطفال عن شاشات التلفاز، والأجهزة الذكية، وجعلهم جزءاً فاعلاً وعنصراً منتجاً، رائيا أن تكرار هذه التجربة تسهم في مساعدة الطفل على اكتشاف ذاته، والثقة بقدراته، والتفاعل على نحو إيجابي مع البيئة المحيطة.